بسم
الله الرحمن الرحيم
يقول الشيخ القرضاوي عن الإعجاز العلمي[1]:
"لا يجوز أن يكون هذا الفهم الجديد مبطلاً للأفهام السابقة، بحيث لا ينبغي
أن تُتَّهم الأمة كلها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى ربما الرسول نفسه،
بأنهم لم يكونوا يفهمون الآية[2]،
وأن كل ما ورد عنهم في تفسيرها باطل، وأن المعنى الوحيد الصحيح هو ما فهمه الكاتب
أو المفسر الجديد ... وإنما اللائق هنا أن يكون هذا المعنى إضافة جديدة، تُضم إلى
ما سبق ولا تبطله، فمن خصائص هذا القرآن: أنه "لا تنقضي عجائبه".
نستغرب من
الحرص الشديد على نفي بطلان بعض الأفهام السابقة لبعض آيات القرآن. إذ أنه يكثر بالتفاسير القديمة آراء لا اعتبار لها، في
معالجتها لكثير من الآيات التي تتعلق بالكون والخلق، أو هي آراء شديدة الضعف وتفتقر
إلى الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الاستدلال الوجيه. بل إن كثيراً من
هذه الآراء ما يتعاند ولا يمكن أن تصح جميعاً! فإن لم يصحح كل مفسر قولاً مرجوحاً
لمفسر آخر، فما جدوى اجتهاده التفسيري؟! - ثم، ما الذي يمنع مفسرون مُجِدُّون مجتهدون
من تصحيح جملة آراء مرجوحة فيما ظهر لهم فيه برهان من الخلق مفارق؟! فإذا نظرنا
مثلاً في تفسير ابن عباس للـ "العاديات ضبحا" لوجدناه يقول أنها جياد
الحرب والإغارة، في حين يرده علي ابن أبي طالب – رضي الله عنهما – ويقول ما يفيد
أنها الإبل في الحج في إفاضة الحجيج من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى! ...
ولا يمكن الجمع بين هذين التفسيرين، ولا يمنع وجودهما في كتب التفسير المنقول ورود
شواهد جديدة يُطرح على إثرها تفسيرٌ أقوى[3] من
هذين (الرأيين)، ومعلوم قدر ابن عباس وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، غير أن
تجاوز آراءهما – التصوُّرية والمرتبطة بثقافة زمنهما- لا حرج فيه، ولا إلزام معه
بضرورة الأخذ بأحدهما.
أما دعوى
الشيخ القرضاوي بأن تُضم الأفهام الجديدة إلى ما سبق من أفهام ولا تبطلها، لأنه
من خصائص القرآن أنه "لا تنقضي عجائبه"، فهذا يفتح باباً للنقاش
لمسألة شديدة الغرابة في التفسير، دعى إليها أيضاً آخرون[4]،
خلاصتها أن تضاف التفاسير المختلفة للآية الواحدة وتتراكم (مهما تنازعت فيها
المعاني)، وأن تكون جميعاً صحيحة وجميعاً مطلوبة ومقبولة وأنها جميعاً من مرادات
الله تعالى المتكلم بالقرآن والمُوحِي به سبحانه إلينا! – نقول: كيف يريد المتكلم
سبحانه – الذي كلامه فصل وليس بالهزل- معنيان متمايزان أو أكثر، لكلام واحد ووحيد النظم،
وأن هذان المعنيان لا يؤولان بالضرورة لمعنى كلي واحد؟! – نقول إن هذا التراكم
التفسيري المتعمد، والمتفاوت المعاني، لا أصل له في قواعد الفهم اللغوي، ولا يقبله
العقل اللساني، إلا أن تكون المعاني المتفاوتة أطروحات لم يبرز منها معنى دون سواه
عند السامع. فتظل هكذا معلقة حتى تتفاضل، وتسقط جميعاً إلاّ أحدها، بما تقوم له من
الأدلة العصية على مداومة التفنيد. ولا يمتنع أن تكون جميع وجوه المعاني التي كانت
مطروحة ساقطة جميعاً بظهور تهافتها وضعفها، ثم يظهر بعد حين معنى فريد، كان
غائباً، يتسيد الصورة الدلالية، ويستقوى ويفرض نفسه. نقول أنه لا يمتنع أن يحدث
هذا، أما الممتنع حقاً، فهو أن نقبل مطمئنين معاني متضاربة أو متمايزة ونقول أن
هذا من عجائب القرآن، والصواب أن هذا من عجائبنا نحن. فالحق واحد، وإن اشتبه على
النظار، إلى أن يأتي ميعاد ظهوره.
إن "واحدية
المعنى" أصلٌ يجب عدم الحيود عنه في قبول التفسير، مهما كان الخاطر الاعتباري
الدافع إلى هذا الحيود - مثل تنزيه المفسرين عن الخطأ! - فإذا اقترن هذا الأصل مع
علمنا بتشابه بعض آيات القرآن، وهو أمر قد صرح به القرآن "مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"(آل عمران:7)
- وتشابه الآية يعني كمون معناها المراد – لوجدنا أن المتمسكين بقبول تفاسير
متعاندة وأن أحدها صحيح بالضرورة لمجرد نقلها عن الأولين من المسلمين يتعارض بجلاء
مع تقرير القرآن بتشابه بعض آياته، وأنه – لا محالة – تشابهٌ آيلٌ إلى البيان
"ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19). ومعنى ذلك
أن تشابه بعض آيات القرآن إنما هو تشابهٌ مؤقتٌ، يتحول مع الزمن إلى الإحكام.
ويتم ذلك على التمام مع انغلاق الزمان، ويكون الفاعل في هذا التحول هو ما يظهر من
الآيات الكونية العيانية وبما ينطق بنفسه بمعنى الآيات المنزَّلة. وهذا هو الدليل
على حدوث لاحق لجديد المعاني، بما يحسم مسائل التشابه، وبما لا يمكن للغة المنقولة
وحدها أن تحسمه، وإلا لحسم مراد الآيات مَن هم أعلم باللغة وحدها.
وبناءاً على
التحليل السابق يكون كلام الشيخ الآتي، محل نظر ومراجعة، يقول[5]:
"ليس من الجائز - في رأيي - قبول تفسير عصري لآية من القرآن الكريم يجزم
صاحبه بأنه هو وحده المراد من الآية، وأن هذا المعنى لم ينكشف إلاّ في هذا الزمان،
وإنما هو العلم بطبيعته النامية المترامية، يفتح من مغاليق الأسرار كل يوم بابا،
ولا يبطل حديثه قديمه." فنقول أن جزم الجازم لا يلزم أحداً إلا
بما يحمل من أدلة وبراهين، لأن سلطان البرهان فوق كل سلطان. فلا خواطر، ولا اتِّباع
إلا ببصيرة. أما القول بأن العلم ذو طبيعة متنامية، فهذا لا شك فيه، ولكن بشرط أن
يكون التراكم لما هو راجح وفاضل عما سواه، وليس لكل ما يقوله القائلون ويلغو به
اللاغون من دعاة معاني لا سند له. أما القول بأن العلم لا يبطل حديثه قديمه، فهذا
ما لا يشهد له تاريخ العلم، بل على النقيض، يشهد عليه شهادة دامغة. وأدلة ذلك
وفيرة، لو أردنا سردها لسودنا مجلدات لا يفرغ منها كاتبها وقارئها لو أرادا.
ونتساءل عمَّ هو مشهور معلوم: أين هي الميكانيكا الكلاسيكية التي جعلت من إسحاق
نيوتن قديس العلم على مدة ثلاثة قرون من الزمان، ثم ذهب ريحها أدراج الرياح وانحسرت
رقعة سلطانها قبل مئة عام مع ظهور عجائب الميكانيكا الكمومية؟! ، وأين هي نظريات
الفراغ الأثيري في القرن التاسع عشر؟ التي انطوت صفحتها وحل محلها الفراغ الزمكاني
النسبوي، وأين هي أمواج الكهرومغنطيسية المتصلة بعد ظهور كمات الضوء المنفصلة؟
وأين ثبات الأرض واستقرارها في مركز الكون بعد ظهور زيف هذا الوهم البصري، وطواف
الأرض حول الشمس مع غيرها من الكواكب السيارات؟! ثم طواف الشمس نفسها مع فيوض
النجوم طوافاً لم تكن تعلم البشرية عنه شيئاً البتة قبل بضعة عقود من السنين، ... وتمتد
القائمة وتطول، وتحتشد الشواهد، وتقر بأن العلوم البشرية تدول وتزول، وتتنقح
وتتزين، وتزيح قديمها وتبطله.
ولنا في
الفقرة التالية للشيخ مأخذان، تقول الفقرة: .. "الحرص (على أن[6])
يوضع القرآن الكريم والعلم الحديث في سباق حرص له محاذيره، وليس له في كثير من
الأحيان ما يبرره، ولِم كل هذا التكلف ياسادة (يوجه الشيخ كلامه لأصحاب
الإعجاز العلمي)؟! إنكم لا تهدون من أحببتم، فمجرد العلم وحده لا يكفي للإيمان،
إنما ينبغي أن تسبقه هذه الفطرة السليمة، والرغبة الأكيدة لمعرفة الحق، ولا بد له
من هذه الجذوة التي يلقيها الله في قلوب عباده الذين ينشدون معرفته."[7]
أما المأخذ
الأول فنقول أن: هناك هيمنة ثقافية عولمية لا محالة، وصاحبها (الغرب) هو قائد للمسيرة
الثقافية المعرفية العلمية العالمية وما يتبع ذلك بطييعة الأحوال، فالتفاضل
والتمايز بين الثقافات، لا بد حتماً أن يقدم إحداها ويؤخر غيرها. ومن تأخر أخره
الله. وكيف لا يكون هناك سباق بين القرآن وأهله من جهة، والعلم الحديث وأهله من
الجهة المقابلة، وكل الشواهد الثقافية والعلمية والسلطوية التاريخية والحاضرة شهدت
اقتحامات لم تكل ولم تمل من قبل الغربيين لسحب البساط دوماً من تحت من سواهم وخاصة
المسلمين. ألم يزعموا أنهم لا يستهدفون الإسلام مراراً وتكراراً ثم نجدهم عقب كل
إعلان من هذا القبيل يُغيرون على دولة هنا أو أمة من المسلمين هناك. أما عن دأبهم
في ذلك فيشهد له الله تعالى بقوله سبحانه "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا"(البقرة:217)، وأما عن
منافستهم للإسلام والقرآن، وحسبانهم أنهم سابقوه، فنقرأه في كلام الله تعالى حين
يقول سبحانه "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59)،
لذا فالمنافسة قائمة، يقودها أئمة الغرب بِقَدِّهم وقَديدِهم، جنودهم وعلمائهم من
جهة، وبين الله سبحانه، ودينه والمؤمنين الصادقين المخلصين من الجهة المقابة. ومن
لم يزكم أنفه غبار المعركة ويسمع دويها القديم الجديد، فليشك بنفسه، ولينظر مع من
يصطف، وهو عن الحق غافل، عسى ألا يكون مع أعداء الله مظاهر أو ناصر لهم آثم.
أما المأخذ
الثاني، ففيه أن الشيخ يشكك في فائدة الإعجاز العلمي في هداية الناس ودعوتهم إليه
بالعلم، وكأن غرض كلامه أن يبعث اليأس في قلوب الذين آمنوا من ذلك، ورغم أن كلامه
صحيح في أن الاهتداء إلى الله سبحانه ودينه الحق ليس نتيجة لازمة للإعجاز العلمي،
إلا أن الدعوى إلى الله بكل الوسائل المشروعة أمرٌ مندوب إليه، ويصل إلى درجة
الفرض لكل من هو أهلٌ له، ويشهد لذلك قول الله تعالى "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ ... وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ..."(الحج:78).
[وليس من شأننا أن نُسمع الصمّ أو نَهدي العُمي ولا الذين يجعلون أصابعهم
في آذانهم فإذا هم لا يسمعون، أو يضعون أكفهم على أعينهم فإذا الشمس
الطالعة ليس بطالعة "وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا"(المائدة:41)، وإنما سبيلنا على أن ننصِب الحُجّة لجاهلها من طلاّب الحق، ونُوضح الطريق لسابِلها من روّاد اليقين.][13]
وقد يغنينا هنا في إظهار فائدة
الإعجاز العلمي في هداية الناس وتكثير المؤمنين بالقرآن كلام الطاهر بن
عاشور في تفسيره، إذ يقول[8]:
[(أما) قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما من الأنبياء نبي إلا
أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله
إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" ففيه نكتتان، غفل عنهما
شارحوه: الأولى: أن قوله "ما مثله آمن عليه البشر" اقتضى أن كل نبي
جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به، وأعجز عنه، فيؤمنون على مثل تلك
المعجزة. ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول: على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا،
الثانية: أن قوله "وإنما كان الذي أوتيت وحياً"، اقتضى أن ليست معجزته
من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا، كقلب العصا، وانفجار
الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على
عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي
إدراك ذلك من البشر، ويتدبره ويفصح عن ذلك، تعقيبه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم
تابعا"؛ إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا،
وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا، لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان،
حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم، فيكون هو
أكثر الأنبياء تابعاً لا محالة..]
أما إيمان
الناس جميعاً، فهو الذي أيأسنا الله تعالى منه من قبل، لأنه سبحانه قدَّر غير ذلك،
وشاهد ذلك قوله تعالى "... أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ
يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا .."(الرعد:31). ونعود فنقول
أن الإعجاز العلمي لا تنحصر فائدته في إيمان الناس الذين لم يؤمنوا بعد، وإنما
تتخطاها لحفظ إيمان المؤمنين، كما شهد الشيخ نفسه بذلك في ثنايا كلامه في خضم
الفتن العلمية والثقافية التي تغمرنا من كل حدب وصوب. ثم يأتي الأهم من كل ذلك،
ألا وهو نصرة الله تعالى، والحق الذي أنزله على الناس، قرآناً يُتلى إلى يوم
الدين، وإقامة الحجة على المنكرين حجة دامغة لا فكاك لهم منها، انتصاراً لدين الله
تعالى. وهو غرض وغاية دونها كل غاية، وفي سبيلها تنقضي الأعمار، وتفنى الآجال، وما
توفيها حقها عند كل ذي لب، وعلى طريق الله قد سار.
متى
يؤيد الشيخ القرضاوي التفسير العلمي والإعجاز العلمي؟
رغم هذا النقد
الذي يبديه الشيخ القرضاوي للإعجاز العلمي، إلا أنه يؤيده بين الفينة والأخرى،
وخاصةً حيث تطفو المسائل ذات العلاقة، وتلح على العقل الفقهي التراثي طالبة المزيد
من آفاق الفهم والدراية، فنجده يقول[9]:
"يمكن أن أستفيد من العلم في تصحيح كلام المفسرين.. فقديماً قال المفسرون في
قوله تعالى: "ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(الذاريات:
49)، قالوا: هذه كلية أغلبية، فرؤيتهم أنه ليس كل شيء في الكون مزدوجا، الإنسان فيه
ذكر وأنثى، الحيوان فيه ذكر وأنثى، بعض النباتات مثل النخيل فيها ذكر (وأنثى) إنما
ليست كل النباتات, ليست كل الجمادات، الآن بعد اكتشاف الذرة، وأنها تقوم على إلكترون
وبروتون، أصبح كل شيء في الكون قائمًا على موجب وسالب، فالازدواج كما قال تعالى: "سبْحَانَ
الَذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا
لا يَعْلَمُون"(يس: 36)، فنحن نأخذ من العلم هنا لنصحح التفاسير. (كما
أن له) وظيفة أخرى: وهي تقريب الحقائق الدينية إلى الذهن المعاصر، هذا أيضاً مهم،
حينما يقول القرآن "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ"(الزلزلة:6)،
"ووَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً"(الكهف:49)، "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً"(آل عمران:30)، المفسرون القدامى
كانوا يقولون: وجدوا جزاء مما عملوا ليس العمل بمجمله؛ لأن العمل انتهى. كانوا يقولون:
العمل عَرَض، والعَرَض لا يبقى زمنين. أما الآن فيقول العلماء: إن أصواتنا موجودة في الكون، وكذا العمل[10]
.. كأن هذه الأعمال ستعرض علينا بذواتها، في شريط مسجل، "اقرأ كتابك"(الإسراء:14)،
"ووَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً"(الكهف:49)."
وغني عن
البيان التردد الذي يبديه الشيخ بين النفي والإثبات، ففي صدر كلامنا عنه رأيناه
يقول: " لا يجوز أن يكون هذا الفهم الجديد مبطلاً للأفهام السابقة
"، وفي الفقرة السابقة نجده يقول: "نأخذ من العلم هنا لنصحح التفاسير
"! (كما نلاحظ أنه هنا يؤيد ما نفاه الشيخ شلتوت في حفظ الأعمال مسجلة
بذاتها)
ونجده يقول[11]:
"لا ينبغي أن تتهم الأمة كلها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى ربما
الرسول نفسه، بأنهم لم يكونوا يفهمون الآية (يقصد أي آية ذات دلالة علمية
جديدة)، وأن كل ما ورد عنهم في تفسيرها باطل، وأن المعنى الوحيد الصحيح هو ما
فهمه الكاتب أو المفسر الجديد." رغم أنه هو الذي قال قبل ذلك بصفحات[12]:
"لا يشك متخصص متعمق في علمه، دارس للقرآن، معايش له، أنه قد تضمن إشارات
علمية، بل حقائق علمية، تعتبر من باب "الإعجاز". لأنها فوق مستوى العصر
الذي أنزل فيه القرآن، والأمة التي أنزل فيها القرآن، والرجل الذي أنزل عليه
القرآن."!!! – ويؤلمنا ذكر هذا التعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم،
الذي لم يتعمده أحد من دعاة الإعجاز العلمي، أشد الألم، لأن المفاضلة المعرفية
التي أجراها الشيخ القرضاوي لم يكن لها مُوجب، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عند
ربه بِقَدْره ومنزلته وعلمه الذي علمه إياه، ولم يخبر به صحابته الكرام رفقاً بهم.
ونعاتب الشيخ القرضاوي على هذا التعريض عتاباً شديدا. وماذا على رسول الله صلى
الله عليه سلم، إلا أنه بلغ الرسالة كما أُمر، وسكت عن أشياء كما أُمر، فليس
بسكوته عنها دلالة على أن ما سيجليه لنا الله تعالى من معانيها فوق مستوى ما علمه
نبيه الكريم، أوليس قد أراه ربه ما لا يمكن لنا أن نراه - مهما أوتينا من علم - يوم
أعرج به؛ "أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى"(النجم:12)، فأنّى لنا أن نماري فيما علم وما لم يعلم. نعوذ بالله من اللغو في ذلك، ونستغفر لإخواننا
الذين خاضوا فيه.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar